في هذه الرواية المتشعِّبة، المعقَّدة، البارعة التركيب هندسيّاً وزمنيّاً، يخلق جبرا ابراهيم جبرا من جديد عدداً كبيراً من شخصيّات الرجال والنساء التي يجد القارئ أنَّها تفرض نفسها على ذهنه، فيعايشها من الداخل، ولا يستطيع نسيانها.

وبقدر ما يثير وليد مسعود من تساؤلات، فإن الشخصيّات الأخرى التي تحاول الإجابة والبحث بصراحةٍ مذهلة، تجعلنا نتساءل: هؤلاء الرجال والنساء، عمَّن هم في الحقيقة يتحدَّثون؟ هل هم المرآة، ووليد مسعود هو الوجه الذي يطلّ من أعماقها، أم أنَّه هو المرآة، ووجوههم تتصاعد من أعماقها كما هم أنفسهم لا يعرفونها؟

لا نحسب أنَّ روايةً كهذه كُتبت من قبل باللغة العربيّة. فهي ليست امتداداً كبيراً لفنّ جبرا ابراهيم جبرا الروائيّ وحسب: إنَّها إضافةً كبيرةً إلى الفنّ الروائيّ المعاصر.

تقوم هذه الرواية على تلازم الفرد و المدينة, فيحكي الفرد غربته و تحكي المدينة عن فجورها و قبحها و وجوهها المتعبة...

صراخ في ليل طويل هي أبو الروايات جبرا اللاحقة, وتمتلك تقنية متقدمة و مسلكا لغويا غير تقليدي, في زمن كانت الرواية العربية فيه تحبو ثقيلة الخطى.

" في الصميم نحن وحيدون ،حياتنا أشبه بالعلب الصينية : علبة داخل علبة و تتضاءل العلب حجما ، الى أن تبلغ العلبة الصغرى في القلب منها جميعا ، و إذا في داخلها - لا خاتم ثمين من خواتم ابنة السلطان ، بل سر أثمن و أعجب : الوحدة ".

ها هو ذا ما يزال ينظر إليّ، وهو سيحدثني هذه المرّة، فأحسّني متصلّباً. ليس ما بيننا ودّاً: كل ما هنالك أنّنا متشابهان. إنه وحيد مثلي. ولكنّه أشدّ إيغالاً في الوحدة. ولا بدّ أنّه ينتظر "غثيانه" أو شيئاً من هذا القبيل.



وإذن، فإن هنان الآن أشخاصاً "يتعرفونني" ويفكرون، بعد أن يحدحوني " "ان هذا منّا". حسناً. ما الذي يريده؟ لا بد أنه مدركٌ أنّ أحدنا لا يستطيع أن يصنع شيئاً للآخر. إنّ العائلات قائمة في بيوتها، وسط ذكرياتها. أما نحن فحطامان بلا ذاكرة.

في هذا الجزء الأخير من ثلاثيَّة دروب الحرِّيَّة يقول سارتر عن أبطاله: إنّهم أحياء لكنّ الموت لمسهُم. ثمَّة شيء انتهى؛ وأَسقطت الهزيمةُ عن الحائط رفوفَ القيَم. وفيما يحتفل دانيال، في باريس، بانتصار تأنيب الضمير، كان ماتيو، في قرية في منطقة اللورين، يقوم بجردةٍ للأضرار: السلام والتقدُّم والعقل، والحقّ والديموقراطيَّة والوطن، كلُّها، مهمَّشة. ولن يتمكَّن المرءُ أبدًا من إعادة لُحمتها.

ولكنْ هناك شيء ما يبدأ أيضًا: من دون درب محدَّد، من دونَ مراجع ولا رسائل تمهيديَّة، بل من دون أن يكونوا قد فهموا ماذا حلَّ بهم، أخذوا يسيرون، لأنَّهم، بكلِّ بساطة، لا يزالون على قيد الحياة...

اعتُبرتْ دروب الحرِّيَّة أضخمَ الروايات الوجوديَّة وأروعَها. وقد استطاع سارتر أن يُدخل فلسفَته الوجوديَّة في متناول القرّاء جميعهم حين صبَّها في قالبٍ روائيٍّ فذّ.

أنت تدعي بول سالفادور، وتبحث عن شخص ما. يكاد الشتاء أن ينقضي. غير أنك لا تهوى البحث بمفردك، ولا وقت لديك لذا تتصل بجوف... قال جوف: من المعني هذه المرة؟ ثم هز رأسه مستنكراً حين لفظ سالفادور اسم امرأة لا، أحسب أن الاسم لا يعني لي شيئاً. ومع ذلك هيا ألق نظرة خاطفة، أجابه سالفادور ممسكاً برزمة من قصاصات الجرائد وصور لامرأة بعينها، تبدو فيها على الدوام وهي تغادر مكاناً ما، ويقتصر شرحها على ذكر الاسم: غلوريا ستيلا.

هذه الرواية التي تعتبر رائعة فونتانه الكاتب الألماني الشهير هي أيضاً إحدى روائع المدرسة الواقعية الألمانية. كما اعتبرها النقاد بمستوى "آنا كارنينا" لتولستوى و "مدام بوفاري" لفلوبير.